Skip to content

كيف نربح معركة تدقيق المعلومات وسط الاستقطاب السياسي؟

[:ar]

أسماء الغول – مسبار

قبل سنوات عدة، احتجت إلى إحصاءات عن عدد مدمني المخدرات في قطاع غزة. لكن الأمر كان شبه مستحيل، فالأرقام الصادرة عن العلاقات العامة في جهاز الشرطة التابع لوزارة الداخلية (تديرها حركة حماس)، الجهة الرسمية المسؤولة عن إصدار مثل هذه الإحصاءات، غير دقيقة وأقل بكثير من الأرقام الصادرة عن مؤسسات معالجة المدمنين، ما يجعلك كصحفي أو مدقق معلومات أو استقصائي، في حيرة. إذ لا يمكن الاكتفاء بالأرقام الرسمية “غير الواقعية”، كما أن استخدام مؤشرات من مؤسسات أخرى يعرضك للتكذيب الرسمي والمساءلة. ففي المناطق التي تشهد استقطابات سياسية حادة غالبا ما تضيع المعلومات، ويتم التلاعب بها لصالح أغراض معينة تخدم أطرافا على حساب أطراف أخرى.

ومن هنا، يصبح لزاما على الصحفي ومدقق المعلومات بذل كل جهد لتدقيق كل معلومة يستخدمها حتى ولو كانت صادرة عن جهة رسمية، وأن يحاول استخدام مصادر أخرى للتحقق منها لتجنب الوقوع في فخ التضليل، أو الترويج لفريق على حساب آخر. 

لا يعني ذلك الوقوف ضد المؤشرات أو المعلومات الرسمية. فعندما تنتشر معلومة مضللة حول هذه السلطات ذاتها، هل يجب التحقق منها ودحضها؟ بالتأكيد نعم، فنحن نقف إلى جانب الحقيقة ولسنا مع طرف ضد آخر. ربما تبدو المسألة معقدة، لكن العمل وفق ضوابط وأخلاقيات كفيل مع الوقت بأن يرسخ ويوضح أن لا أهداف شخصية، ولا أجندة سياسية تقف وراء العمل المهني.

العام الفائت انتشرت فاتورة أحد الفنادق القطرية بحوالي مليون دولار لإقامة فريق “حماس” فيه خلال العدوان على قطاع غزة في أيار/ مايو. كان من المهم التدقيق في الفاتورة التي تبين لاحقا أنها مزورة، من نواح عدة، أحدها الاستعانة بالفندق نفسه الذي أكد أنها لم تخرج عنه، لكن دون الإدلاء بأي تفاصيل أخرى، إلا أن فريق “مسبار” اكتشف أن في الفاتورة ضريبة مضافة (5 في المئة)، وهو الأمر غير المعتمد في قطر وقتها، كما أن جلسات المساج المذكورة في الفاتورة وكلفت عشرات آلاف الدولارات لم تكن متوفرة منذ أشهر عدة في الفندق بسبب وباء فيروس كورونا. هنا كان يجب الاتصال بالفندق مرة أخرى، وطلب خدمة المساج “احتيال صغير”، إضافة إلى أن الفاتورة قيمتها بالدولار وجميع فواتير الفندق تخرج بالريال القطري، بالنهاية خرجت الحقيقة بغض النظر عن هوية الفريق السياسية أو العرقية أو القومية.

وهذا ما يحدث مع جميع المعلومات التي يدققها “مسبار” بشكل مستمر، فلا يمكن الانحياز لفريق على حساب آخر. الانحياز هو للحقيقة وحدها، ولو كان ذلك سيعرضك للاتهامات أحيانا.

فعلى سبيل المثال، وخلال اعتداءات الجيش الإسرائيلي على الفلسطينيين في قطاع غزة أو الضفة، تمر مقاطع فيديو أو صور مضللة قديمة، وبعضها زائف من أفلام ومسلسلات، لذلك فإن تدقيقها، ونشر المعلومات الصحيحة عن خلفيتها، يُعرّض الفريق لانتقادات واسعة، “الاحتلال يفعل أكثر من ذلك” نعم صحيح، لا شك في الأمر، إلا أن نشر أخبار كاذبة وصور مضللة أو مقاطع تمثيلية على أنها حقيقية، يُقلل من قدر القضية ككل، ويضع كل الحقائق في سلة واحدة، سلة الشك بما يحدث داخل فلسطين، خاصة للقارئ في الخارج.

وهذا ما جعل وسما على موقع تويتر، مثل palywood ينشط كثيرا، ومهمته إثبات أننا كفلسطينيين نكذب ونزور الأحداث، لذلك تُنشر هذه الصور والمقاطع التي يتداولها المتعاطفون مع القضية من دون تدقيق، فيهاجم الطرف الآخر في الوسم للقول إن معاناتهم وآلامهم مزورة، ولا يمكن تصدقيها والجيش الإسرائيلي إنساني ولا يفعلها!

كما أن هناك اختبارات حقيقية للنزاهة قد تواجه مدقق المعلومات، ففي التحقيق الأخير الذي كشف خلاله “مسبار” عن قيام أحد المخرجين بالإعلان زورا عن نيله عددا من الجوائز الدولية الرفيعة في مختلف دول العالم وعلى مر أكثر من خمسة أعوام، يبدو للقراء أن التحقق هو الظاهر من مقارنات الفائزين الحقيقيين وأختام وشكل الشهادات، لكن العمل في الظل استمر أياما عدة، وسط لقاءات كثيرة جرت مع محيطين بالشخص كأصدقاء وصحافيين وفريق عمل، للتأكد من شخصية المخرج، ومدى فعالياته في الوسط، ولمس صدقية النتائج التي توصل إليها الفريق، وفي محاولة لتدقيق جميع المعلومات حتى اللحظات الأخيرة، إضافة إلى الاطلاع على مراسلات خاصة ومزيد من صور دروع ورسائل جميعها مفبركة.

 وهنا لم يستطع “مسبار” الكشف عنها لالتزامه بأخلاقية العمل الصحفي، وكونها جاءت ضمن مراسلات خاصة. كما كان من المحرج للمتحدثين ذكر أسمائهم في التحقق، ما جعل “مسبار” يقتصر على سردية واحدة للمقالة لا تتضمن لقاءات، إلا أن هذه المعلومات أكّدت السياق ككل الذي نُشر عليه المقال في النهاية، وكانت أكبر وسائل الإعلام العربي منها الجزيرة، قد أجرت مقابلات مع هذا المخرج على أساس هذه النجاحات المفبركة.

لذلك فإن الحق في الحصول على المعلومات ونشرها، ممارسة أساسها الفعل الأخلاقي، فلا يمكن أن تكشف التضليل عن طريق التضليل، فإن الشجاعة في نشر هكذا مواد، يلزمه أيضا كثير من النزاهة في الحصول على المعلومة والوصول إليها وتدقيقها بشتى الطرق، ربما أحيانا لابد من التحايل، لكن لابد أن يكون تحايلا غير مؤذ للمصادر الحية في التحقق والصحفي نفسه، أو يمس عمله النهائي بالشك.

ربما يوما ما كمدققي/ات معلومات ستثمّن الحكومات والجهات ذات السلطة عملنا، وتنظر إلينا كسلطة رابعة ولسنا متطفلين مكروهين، يضعون أنوفهم في كل شيء، لحظتها ستتوفر لنا الأرقام والبيانات الصحيحة دون الحاجة للاحتيال “البريء” أو التسريبات المحفوفة بالمخاطر، وقد تعطينا الأقاليم والأراضي المحافظة إحصائيات المدمنين. نعم يوما ما، حينما ندرك جميعا أن نشر المعلومة الصحيحة هي خطوة في طريق تقدم البلاد.

أنجز هذا المقال بدعم وإشراف الشبكة العربية لمدققي المعلومات (AFCN) من أريج، بالتعاون مع منصة “مسبار“، ضمن مشروع “صح” من برنامج “قريب الذي تنفذه الوكالة الفرنسيّة للتنمية الإعلامية (CFI) وتموله الوكالة الفرنسيّة للتنمية (AFD).

[:]