مها صلاح الدين – صحفية بيانات ومدققة معلومات
قبل خمسة أعوام، وتحديدًا في كانون الأول/ ديسمبر 2018، حصلت على جائزة أريج لأفضل تحقيق مدفوع بالبيانات، عن قصة بعنوان: “اختبار المعارضة في البرلمان.. النتيجة صفر”. لم يكن هذا التحقيق مجرد قصة مدفوعة بالبيانات، بل كان أول عهدي في تدقيق البيانات بشكل احترافي.
بدأت القصة حينما أطلق وكيل البرلمان المصري في ذلك الوقت، وبالتزامن مع الانتخابات الرئاسية، تصريحات متلفزة، تفيد بأنه لا توجد منافسة سياسية في مصر، لأن نواب البرلمان لا يستخدمون أدواتهم الرقابية، وتحديداً “الاستجواب”.
الأمر الذي حرك حسّ التحقق بداخلي، وجعلني أتساءل، هل لا يستخدم النواب أدواتهم الرقابية -الاستجواب- حقاً؟، وجعلني أنطلق بحثاً عن الحقيقة.
انطلقت من الرقم صفر… النفي القاطع الذي أطلقه وكيل البرلمان، ورصدت عبر البيانات الرسمية الصادرة عن النواب، خلال تلك الفترة البرلمانية. وكانت النتيجة: 33 استجواباً تقدم بها نواب البرلمان.
ثمّ قمت بتحليلها كأحزاب وقطاعات، وتتبعت مصير كل منها، وتوصلت إلى أن البرلمان وإدارته -الذي يُعد وكيل البرلمان صاحب التصريح جزءاً منها- لم يوافق سوى على مناقشة ثلاثة استجوابات فقط من بين الـ 33 استجواباً المقدمة، أحدها سقط لاستقالة الوزير، واثنان لم تحدد إدارة البرلمان المصري موعدا لمناقشتهما حتى موعد نشر التحقيق.
وهنا تلاعب المسؤول بالبيانات، فنعم هناك “صفر استجواب” في البرلمان المصري، ولكن ليس لأن البرلمانيين لا يستخدمون أدواتهم الرقابية، بل لأن البرلمان لم يجز مناقشة الاستجوابات المقدمة من أعضائه.
لن أخفي عليكم سراً، إذ لم أكن أعرف وقتها أن ما أفعله يندرج تحت بند تدقيق المعلومات، ولا حتى أنه تحقيق مدفوع البيانات. فقط، قادني حسي كمحققة صحفية لديها مهارات تحليلية لتقصي الأمر، واستطعت إنجاز القصة.
دائماً ما تعطي الأرقام مصداقية للتصريحات والمواد الصحفية، لكنها أيضاً تكذب وتتجمل أحياناً، حينما تقطع من سياقها التاريخي والزمني، أو نذكر منها نصف الحقيقة التي تدعم فرضية التحقيق الاستقصائي فقط، أو إجراء عملية حسابية صحيحة لنخرج منها بنتيجة خادعة.
في عام الجائحة 2020، وضعت منظمة الصحة العالمية مصر في المنطقة الحمراء بين الدول من حيث تفشي الإصابة بكورونا، في الوقت الذي كانت تحتل فيه مصر ترتيباً متوسطاً بين الدول العربية رقمياً، وكانت أرقام الوفيات المعلنة لا تشير لهذا التفشي.
تشكك كثيرون في الأرقام المعلنة، لكن الحكومة المصرية في ذلك الوقت كانت تؤكد أن أرقام الإصابات والوفيات المعلنة تؤكد استقرار الأوضاع في مصر، وعبور الجائحة بنجاح.
ولكن بعد أن صدرت نشرة الوفيات الخاصة بعام 2020 في العام التالي، بواسطة الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري، استطعت تتبع مسار مؤشر الوفيات في مصر في شهور الذروة، وكذلك أسباب الوفاة، والتي تمّ تسجيل أغلبها بسبب أمراض الجهاز الدوري والتنفسي، مثل الجلطات والالتهاب الرئوي، والتي تعدّ من مضاعفات كورونا.
وبعد أن كان معدل الزيادة السنوية للوفيات بتلك الأمراض من 1.2 في المئة كل عام، زادت في عام الجائحة بمعدل 17 في المئة، وغيرت ترتيب الوفيات بسبب أمراض الجهاز التنفسي إلى المركز الثاني، بعد أن كان ثابتاً لسنوات في خريطة أسباب الوفاة في مصر.
الأمر الذي أكد عدم إعلان الحكومة المصرية عن الأرقام الحقيقية للوفيات الناتجة عن كورونا في ذلك الوقت، عبر تسجيل الوفيات تحت أسباب أخرى، كانت في الحقيقة مضاعفات الإصابة بالوباء، لعدم الإعلان عن الأرقام الحقيقية.
لم يختلف الأمر كثيراً في عملي كمدققة معلومات، يُسند إليها مهمة العمل على تدقيق التحقيقات المدفوعة بالبيانات قبل نشرها. حينها لا يقتصر عملي على تدقيق ما جاء في النصوص أو الصور أو مقاطع الفيديو فحسب، بل تبدأ العملية بتدقيق المصدر الأولي للبيانات، ومطابقته بما ورد في جداول البيانات الذي يعمل عليه الصحفي، ثمّ تدقيق عمليات تنظيف وتحليل البيانات للتأكد من أن النتائج الذي خرج بها الصحفي صحيحة، ومن ثمّ نقل تلك البيانات إلى تطبيقات التمثيل البصري بشكل صحيح، واختيار الشكل البياني المناسب لها.
ينتج عن عملية التدقيق هذه تغييرات عديدة في العمل الصحفي، بعضها شديد الأهمية. ففي إحدى المرات وبعد تدقيق عميق لأحد التحقيقات والذي كان مفاده أن “مصر تفقد نصف رياضييها”، وباتباع المنهجية السابقة في تدقيق البيانات، والرجوع إلى المصدر الأولي، وإعادة التحقق وتحليل البيانات، وجدنا أن “مصر تفقد ثلث رياضييها فقط”، ما دفعنا إلى إعادة النظر وتغيير فرضية التحقيق وعنوانه. فذلك الخطأ غير المقصود كاد أن يعصف بمصداقية تحقيق استقصائي تمّ العمل عليه عدة أشهر، وهو ما يعكس أهمية تدقيق البيانات حتى قبل النشر، حتى لا نقع في فخ نشر معلومات غير دقيقة ومضللة.
في النهاية، علينا أن نتذكر دائماً أن استخدام الأرقام سلاح ذو حدين، وأنها ليست صادقة دائماً، وأنها قد تكذب وقد يتمّ التلاعب بها واستخدامها بطريقة مضللة، ما يجعل من عملية التدقيق مسألة أساسية، تحديدا في العمل الاستقصائي.
أنجز هذا المقال بدعم وإشراف الشبكة العربية لمدققي المعلومات (AFCN) من أريج، ضمن مشروع “صح” من برنامج “قريب” الذي تنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الإعلامية (CFI) وتموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD).